السلام عليكم
وفاء كلب !
كانا صديقين نشآ وترعرعا معاً كأحسن ما يكون الأصدقاء. أما هو فقد أسماه والداه يوم وُلد (طالع) أي حظ، وأما الثاني فيبدو أنه فُطمَ سريعاً ولم يُطلق عليه إسم.
كان عُمرُ (طالع) عامين عندما جيء به إليهم، وكان قد بدأ يتعود الكلام حديثاً، فيقول ماء، وأوفه وأوه، فأضاف إلى رصيده ذلك كلمة ذات مقطعين هي (بوبي).. الإسم الذي ألِف أن يسمع أمه وأباه يستعملانه حين يخاطبان الجرو الصغير الذي لم يكن له أب ولا أم، عندما كانا يضعان له الحليب الذي اعتادا أن يقدماه له في وعاء عميق.
كانا غالباً ما يلعبان معاً في ساحة الدار المرصوفة بالطابوق الأصفر المربع، فلا يكاد (طالع) يجر عربته وراءه حتى يقفز (بوبي) عليها ويَحول دون جرّها، فيصرخ به ويبكي أحياناً عندما يترك الجرو العربة ويقفز عليه ويسحبه من سرواله القصير ويكاد أن يوقعه على الأرض.
في كل صباح كان الجرو يتنقل بين غرف الدار مفتشاً عن طالع، فإذا وجده راح يثب عليه وينبح معلناً بدء الصراع. فإذا لم يجد منه إقبالاً أعمل أسنانه في سرواله واضطره اضطراراً إلى مشاركته في اللعب وإلا أبكاه.
وكان طالع سرعان ما ينسى ما أحدثه الجر به من رعب ومضايقة، فيشرعان في الجري أحدهما وراء الآخر في صحن الدار والحديقة التي فيها، فتجد أمه عندئذ فرصة لأن تصعد إلى أعلى الدار لكي تنشر الثياب أو تقوم ببعض شؤون المنزل في الغرف مطمئنة إلى أنهما في أمان، مهما تطـُل بهما فترة الإنصراف إلى عملها، بعد أن تكون أحكمت إغلاق باب الدار. ولم يخطر لها مطلقاً أن تفكر فيما كان يخبؤه لها القدر من مفاجآت.
اختفت هذه الرؤيا نهائياً ذات يوم عن خاطر الصغير طالع.. إذ لم يعد هناك شيء في حياته إسمه بوبي، أو له شكل بوبي... فقد تركتهما الأم ذات يوم على عادتها وصعدت إلى السطح لتعلق الغسيل الذي كان كثيراً جداً فاستغرقها العمل ساعة ريثما أحكمت تعليق الملابس بالمشابك لشدة الريح في ذلك الصباح.
وعندما هبطت لم تجد لا الطفل ولا الكلب، فانقلبت الدار مأتماً، إذ كان طالع أول صبي لها ولأبيه.
استمر التفتيش عن طالع زمناً طويلاً عبثا. أما الجرو فقد وجده أبو طالع في أحد الأزقة وقد أثخنه الأطفال جراحاً، وربط أحدهم بعنقه خيطا يسحبه به، فأنقذه من أيديهم وعاد به إلى الدار بعد أن خاب مسعاه في الإستهداء على أثر طفله. ولم يجرؤ بوبي بعدها أن يفارق البيت إلى أن نشأ وكبر.
مرت الأعوام ورزق الوالدان بأطفال آخرين، لكن ذكرى طالع كانت دائما تنغّص عليهما العيش، وكان شبحه ماثلاً أمام أعينهما دائماً فتطل على الناس بحزن دفين يفرض الإحترام على كل من يلتقي بهما، فأحبهما الرجال والنساء. وكان الناس يتحدثون دائماً عن مصيبة هذين الزوجين، ويحاولون أن يسروا عنهما ويخففوا من أشجانهما بما يستنبطونه من مناسبات يدخلون بها الفرح إلى قلبيهما. وحتى المدرسون كانوا لا ينون يعاملون أولاد هذين الزوجين معاملة خاصة فيقدمونهم على غيرهم ويعطونهم امتيازات خاصة ويترفقون بهم كثيراً.
كبر بوبي وأصبحت كلاب الحي تتجنبه وتخشى بطشه، لكنه كان لا يقصد أحداً بأذى، ولم يكن يتجاوز الزقاق إلا نادراً لكنه عندما بدأ يهرم غيّر لأمر ما من عادته، وأخذ يرافق سيده كل صباح إلى السوق ولا يتأخر عنه إلا عندما يرى ما يجتذبه لكنه سرعان ما كان يلحق بسيده.
وكأن هاتفاً ما كان يهتف في أذن هذا الكلب فأكثر في أيامه الأخيرة من إرهاف سمعه وشم الناس.. وكان سيده وسيدته كلما أقعده المرض قالا أنها ساعته الأخيرة وأنه لن ينجو بعدها قط، خاصة وقد بلغ من العمر اثني عشر عاماً، لكنه كان لا يلبث أن ينهض ويتحامل على نفسه ويخرج مع سيده، ويتشمم الناس، فيلاطفونه ويترفقون به فليس ثمة من لم يسمع منهم بقصة هذا الكلب، وليس ثمة من يجهل أمره وأمر الطفل.
وجاء يوم خرج فيه (بوبي) مع سيده لكنه لم يعد، وعندما سألوا عنه سيده في البيت قال أنه عند أوبته لم يجده، لكن شعوراً ما كان يجعله واثقاً من عودة الكلب، فهو يعرف طريقه جيداً ولا يحتمل أن يكون ضل.
مضى يومان ولم يعد الكلب فاستحوذ القلق على سيده وسيدته ففتشا عنه فلم يجداه. لكنهما فوجئا به يعود في اليوم الثالث ويجرهما من ملابسهما وهو ينبح بصوت مختنق، ويشير برأسه إلى الباب، فداخلهما قلق شديد وهمس بقلب سيدته هامسٌ ارتجفت له، فقالت لزوجها أن حادثاً ما حدث للكلب، ولا بد أن يكون حادثاً كبير الأهمية كما يبدو، فقد كان نباح الكلب يستحيل إلى أنين يمزق نياط القلب كلما وجدهما عاجزين عن فهمه.
قفزت المرأة إلى عباءتها وقالت لزوجها: إذا لم تذهب معي ذهبت وحدي. وكأن الكلب فهم ما عنته، فأنشَب أسنانه في عباءتها وأخذ يجرّها جرّاً، كما كان يفعل مع طالع.. وبعد مسيرة طويلة مضنية في أحياء بعيدة مجهولة، وقف الكلب بهما أمام باب بدأ يعمل فيه مخالبه وينبح بشدة. فطرق الرجل الباب ففتحه لهما شاب في حوالي الأربعة عشر عاماً، جميل الصورة سرعان ما هجم عليه الكلب وأخذ يلعق يديه ويشمه وينشب أنيابه في سرواله ويجرّه إلى سيديه اللذين وقفا أمام الفتى وقد ألجمتهما تصرفات الكلب وعصفت بهما بلادة سمّرت أقدامها في الأرض.
حاول الفتى أن يُبعد عنه الكلب عبثاً، فكان يقول وهو يحاول التملص منه: يا له من كلب غريب ما انفك يطاردني منذ ثلاثة أيام لم يفارق فيها باب دارنا.. فإذا خرجت خرج معي وهو يشدّ على سروالي.
قال الفتى هذا وانزل يده من وراء مزلاج الباب ليبعد الكلب عنه، فما كادت السيدة أن ترى أصابعه المحروقة حتى تهاوت مغشياً عليها..
وسرعان ما سرت في جميع المدينة إشاعة عجيبة، فقد عثر (بوبي) على (طالع)! سرت سريان النار في الهشيم، فقامت قيامة الناس، ولكن الأمر لم يكن من السهولة كما كانوا يتصورون.. فقد كان لطالع أم أخرى معترف بها غير أمه هذه التي لم يكن لديها ما تستند إليه من براهين غير الكلب والحروق التي في الأصابع وشهادة الناس.
وفي قاعة المحكمة أصغى الناس لأغرب قصة.. وأخذوا يتسقطون الأقوال التي أدْلـَت بها الأم التي فقدت طالع.. وطالع الذي فقد والديه والأم التي وُجد لديها طالع.
قالت أمه المسكينة أنها فقدت طفلها مع الكلب، فلم تـُحكم ذات يوم إغلاق الباب كعادتها. وأيدها زوجها، وشهد الناس على ذلك، وأنها تعرفه من يده التي احترقت أصابعها ذات ليلة عندما انسكب عليها الزيت المشتعل.
وقال طالع أنه لا يعرف أمّاً غير أمّه التي وجدوه بحوزتها.. لكنه ذكر أيضاً أنه غالباً ما كانت تمر به لحظات تضيء في ذاكرته رؤى غريبة، فيخيّل إليه أنه يلاعب جرواً صغيراً أسمه بوبي في ساحة دار أرضيتها من الطابوق الأصفر.. أما متى وأين فلا يدري.
وقالت المرأة الأخرى تروي قصتها، والدموع تجري سيولاً على خديها الذابلين، أنها كانت وحيدة والديها، ولم يكتب لها الحظ أن تعثر على الزوج الذي يوافقها فهي دميمة، وقد خلف لها والدها ثروة لا بأس بها.. وفي ذات يوم قصدتها بائعة اللبن ومعها طفل في عامين، وروت لها أنها عثرت عليه ضالاً ولم تعلم ما تصنع به وهي أعجز من أن تنشئه.. واقترحت العانس عليها أن تتعهده وترعاه، وكانت قد بلغت العقد الرابع وداعي الأمومة لا يزال يصرخ بها. فاستجابت بائعة اللبن لها، فما كان من العانس إلا أن أنشأته أحسن تنشئة وتعلقت به أشد ما يكون التعلق. ولما خشيت أن يعثر عليه والداه تركت المدينة عشر سنوات، لكنها عادت إليها بعد ذلك وكتبت باسمه كل ما كانت تملك من عقار وأملاك، بعد أن أفردت جزءاً كبيراً مما تملكه لأعمال البر والخير، رجاء أن يغفر لها والداه، سواء علما بالأمر أو ظلا يجهلانه. ثم تركت أمره وأمرها إلى الأقدار.
وقد ظهر لها الآن أن الأقدار لهم ترض عن عملها فاكتشف الوالدان مكان فلذة كبدهما، فلم تشأ أن تضيف سيئة أخرى إلى سيئتها.. وها هي تضع مصيرها ومصير كل ما تملك بيد والديه، ليقررا ما شاءا بشأنها وبشأن الولد وقد بلغت من الكبر عتيا، ولم يعد يراودها من أمل إلا أن ترى ابنها المتبـَنى رجلاً سعيدا، وإن ضحّت بسعادتها هي من أجله ومن أجل والديه..
وحارت هيئة المحكمة فيما تصنع وتقرر، وحار طالع إلى أية جهة يميل وقد اشتد به الحنين إلى الرؤيا القديمة وناشده الحنان وعرفان الجميل إلى من تبنته..
استمر الصراع لحظات خالها عمراً، كانت العانس خلالها تتهالك على نفسها بشكل يدعو إلى الرثاء والخوف معاً، فصاح الفتى بجزع يخاطب القاضي:
أيها القاضي إني أعتقد بأني أنا الشخص الوحيد الذي له أن يقرر مصيره ويحكم إلى من يعود وإلى من لا يعود، وأشار إلى أمه وأبيه اللذين كانا يرتجفان!
هذان أمي وأبي لا شك في ذلك، وهذه أمي الأخرى.. إنهم جميعاً أحبوني ما في ذلك ريب. هما فقداني طفلاً، وهي أنشأتني صغيراً، وأنا لا أريد أن أفقد أحداً منهم بعد الآن ولا أرضى أن يساوم عليّ أحدٌ منهم على حساب الآخر. أنا أريد أبي وأمي، ولكني في نفس الوقت لن أتخلى عن أمي الثانية. فلن تعيش بعدي يوماً واحداً، لأني أعرف كم أحبتني وكم ضحّت لأجلي.. وأنا لست على استعداد لأن أتخلى عنها وهي التي اعترفت لي بكل شيء عندما بلغت من العمر مبلغاً يسمح بأن أفهم شيئاً كهذا.. وغفرت لها وهي تقبّل قدمي.. فإذا كان والداي يحباني كما أحبتني هي وبذلـَت لي من نفسها فلنعش معا.. وإلا فإني سأقضي على نفسي قبل أن أرى نهاية هذه المأساة.
كان الجميع يصغون إلى حديث الفتى الطلق وقد رانَ عليهم الصمت والذهول، والدموع تتفجر من مآقيه بغزارة، وهو يحتضن أمه الثانية، ويسندها بجسده النحيل الذي كان يهتز كالقصبة الجوفاء وعيناه شاخصتان إلى والديه. فما أدهش الجميع إلا أن يتقدم والده الذي كان قد وخط الشيب عارضيه، فيحتضنه بشدة ويقول موجهاً حديثه إلى هيئة المحكمة:
أيها السادة.. لقد كان في منطق ولدنا من الحكمة ما يحسده عليه الكهول أمثالنا.. وأنه ليسعدنا بعد كل الذي جرى أن نكونَ بيتاً واحداً وعائلة واحدة. وأنه ليسرنا أيضاً أن تكون بين ظهرانينا "أم ثانية" لابننا.
وتقدّمت أم طالع منه واحتضنته وقبلته وجثمت بدورها عند قدميّ العانس.. وهي تقول أنه لشرفٌ لنا أن تكون لي ولأبنائي أم مثلك يا أختاه.
وفي اليوم الثاني وقد اتحدت العائلتان في عائلة واحدة كان اهتمام الدار كله ينصبّ على بوبي الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة بين يدي طالع دون أن يظهر على وجهه أي أثر من الألم.. فكأنه حقق حلما سعيداً عاش طويلا في ذاكرته.
وعندما اجتمع الجميع حول رأسه رفعه لآخر مرة ونظر إلى (طالع) نظرة صادقة.. ثم خفضه إلى الأبد.
والسلام عليكم